درس التاسع
اوزان الشعر العربی
دراسة بذور قصیدة النثر فی التراث العربی فی ستة أجزاء :
تظهر الرومانتیکیة النامیة التی تبحث عن شکل أفضل تطابقا مع التطلعات الجدیدة میلین : من ناحیة، ذوق أکثر فأکثر وضوحا للآداب الأجنبیة و لاسیما الأغانی و القصائد و الموشحات الغنائیة الشعبیة التی تضاعفت ترجمتها ، من ناحیة أخری ، إستعدادا و إرادة ثوریة أکثر فأکثر وضوحا فیما یتعلق بشکل الشعر و لغته. (سوزان برنار ،ص38) و إلیک بعض بذور قصیدة النثر فی التراث العربی ؛
1 –فن المقامات :
فن انتشر فی القرن الرابع للهجری ، وهو عبارة عن مآلفة بین الشعر والنثر ، مستنداً على لغة أدبیة خاصة ، تعتمد على النزوع إلى الإطناب والإکثار من الجمل المترادفة والتزام السجع للحفاظ على التوازن الصوتی الخاص بالمقامة ، وأهم من یمثلون هذا العصر : (ابن العمید والصاحب بن عباد وبدیع الزمان الهمذانی وأبی عامر بن شهید وأبی بکر الخوارزمی) .
واستمر هذا الأسلوب الخاص حتى مطلع القرن الماضی لدى المویلحی ، فی (حدیث عیسى بن هشام) ولدى أحمد شوقی فی (أسواق الذهب) .
وفن المقامة تنهل من الطرفین النثری والشعری معاً ، فهو فن نثری شعری ، وقد أطلق علیه صفة النثر الفنی ، ففیه من الإیقاع ما یقارب الشعر ، لکنه لا یصله من حیث الوزن والقافیة والشطرین الذین أحاطوا بمفهوم القصیدة آن ذاک .
2 –النثر الشعری لدى الصوفیین :
کحرکة موازیة لحرکة المقامات الآنفة الذکر ظهرت حرکة أکثر عمقاً وأکثر تعقیداً لکنها مهمشة وضائعة آن ذاک بسبب المناخ السیاسی السائد حینها ، وهی النثر الشعری للصوفیین ونجدها فی طواسین الحلاج ، ومواقف النفری ، ومخاطباته والإشارات الإلهیة للتوحیدی ، حیث نشهد ثورة باللغة على اللغة لتأسیس مشهد جدید ، یکشف عن تجارب روحیة هادرة تنزع للتحرر .
3 –النثر الشعری الرومانسی :
ظهرت فی مطلع القرن العشرین تجارب تحاول محاولةً جادة فی أن تغرف من الشعر فی أسلوب الکتابة النثریة ، وکان أهمّ مَن مثّل هذه المدرسة (جبران خلیل جبران وأمین الریحانی والرافعی ، وأحیانا کثیرة لدى المنفلوطی والزیات وطه حسین) .
4 –الشعر المنثور :
وهی مرحلة تعتبر کمرحلة نضج للنثر الشعری الرومانسی وامتداداً له ، وهنا نجد أن التجربة تقترب کثیراً من قصیدة النثر ، لا فی شکله الظاهری فحسب ، إنما فی نظامه الإیقاعی الداخلی والخارجی وما یفرضه هذا النظام من هیمنة على البناء النحوی الخاص بشعریة النص ، وکبدایة لذلک نجد (قصیدة المساء 1902 لخلیل مطران ومرثیته التی أنشدها فی حفلة تأبین الشیخ إبراهیم الیازجی ، بعنوان شعر منثور 1906، وما کتبه أمین الریحانی اعتبارا من سنة 1907، ثم ما کتبه جبران).
5 –بدایات مفهوم قصیدة النثر :
تظهر فی جماعة "أبولو" فی مصر التی أسست مجلة سمیت بنفس الاسم فی أیلول عام 1932 هذه الجماعة بدأت بتأسیس المفاهیم الأولیة لقصیدة النثر ، لکن ما کان یعیب علیهم تأثرهم الأعمى بالقصیدة النثریة التی وفدت من الغرب ، والتجارب السریالیة والدادئیة التی اتخذوا منها نبراساً لتجاربهم .
6 –توطید مفهوم قصیدة النثر :
بدأت التجارب الجادة لبلورة مفهوم قصیدة النثر لدى جماعة "شعر" فی سوریة (أدونیس - أنسی الحاج ..إلخ) حیث أخذت قصیدة النثر تفرض نفسها کجنس أدبی جدید ، لها میزاتها ولغتها الشعریة واصطلاحاتها اللغویة ، معتمدین على تجارب من التراث العربی ، وأخص بالذکر الشاعر الکبیر أدونیس ، حیث نظّر لهذا المفهوم بالإضافة لما کتب .
إذاً : من خلال هذا السرد التاریخی الموجز ، لا نجد قصیدة النثر نشازاً ، أو ورماً خبیثاً فی جسد الشعر العربی ، إنما تطوراً طبیعیاً لما کان فی الماضی ، مع مرور بحالات جمود وسکینة ، نتیجة الظروف التاریخیة التی تعرضت لها المنطقة بشکل عام ، ولیس دخیلاً على الشعر العربی أو غریباً عنه ، بل حرکة تجدید وتطویر طبیعیتین لأی منتج أدبی ، فهو لم یکن کما المسرح مثلاً ، إذ أن الثقافة العربیة لم تسمع بهذا المصطلح قبل قرن و نصف تقریباً .
مفهوم قصیدة النثر أسسه النظریة وخصائصه البنائیة :
قد أرجع أدونیس- أحد أهم شعراء قصیدة النثر العربیة - ظهور هذا المصطلح ونجاحه فی الشعر الحدیث إلى ما یلی:
ـ التحرر من نظام العروض الخلیلی الذی ظل حاجزا نفسیا یقف ضد کل تجدید أو تطویر فی الشعر العربی، وهذا التحرر قرب المسافة الفاصلة بین الخطابین النثری والشعری.
ـ الرغبة الجامحة فی التخلص من کل ما یمت إلى الأشکال والقواعد الموروثة بصلة، والبحث الجدی عن بدیل لما تم هدمه وتجاوزه .
ـ التوراة والتراث الأدبی القدیم فی مصر وبلدان الهلال الخصیب ، وهو تراث یتمیز بکتاباته النثریة ذات النفس الشعری .
ـ ترجمة الشعر الغربی، فالقارئ العربی یعده شعرا على الرغم من تحرره من الوزن والقافیة ، ویتحسس أبعاده الشعریة المتولدة عن الصورة ووحدة الانفعال.
ـ اختمار الأشکال التجریبیة ما قبل قصیدة النثر، وآخرها النثر الشعری.
وقد حددت "سوزان برنار" لهذا الشکل الشعری ثلاثة خصائص تبناها کل من الباحثین الغربیین وهی :
أ ـ الوحدة العضویة: فقصیدة النثر بناء یصدر عن إرادة واعیة، ولیس مجرد مادة متراکمة تراکما غفلا، إنها کل غیر قابل للتجزیء أو الحذف أو التقدیم أو التأخیر بین مکوناته .
ب ـ المجانیة: فهذا الشکل، شکل جدید لا علاقة له بکل أشکال الکتابة المعروفة من نثر وشعر، وروایة ومسرحیة، حتى ولو وظف تقنیات هذه الأشکال، فهو شکل جدید لا غایة له خارج عالمه المغلق، أی، أنه مجانی ولا زمانی .
ج ـ الکثافــة: یبتعد هذا الشکل الجدید عن کل خصائص النثر من استطراد وإیضاح وشرح وإطناب، وتکمن خاصیته الشعریة فی کثافته وإشراقه، وبعبارة أدونیس انه " کتلة مشعة مثقلة بلا نهایة من الإیحاءات قادرة على أن تهز کیاننا فی أعماقه، إنها عالم من العلائق".
إن ثورة الشعر الحدیث بلا حدود ، فهی لیست تمردا علی الأغراض الشعر القدیم من هجاء و مدح و رثاء و فخر ، و لیست تجاوزا لمرحلة البیت الواحد المکتفی بذاته ، مرحلة الحکمة الذهبیة و إنما هی ثورة علی القالبیة فی الفکر و التعبیر ، سواء کانت هذه القالبیة هی عمود الخلیل ، أو التفعیلة الواحدة ، و سواء کانت الأطلال هی ماضی الحب العظیم ، أو هی أمجاد الوطن العریق ، أو هی أزمة الإنسان الحدیث ، و إقترب الشعر بإستقلاله الذاتی عن الغناء و الرقص و الموسیقی و الفنون التشکیلیة من أن یکون شعرا. (غالی شکری ، ص85)
آراء "أدونیس" فی قصیدة النثر :
یمکن إیجاز مجمل آراء أدونیس بقصیدة النثر بالملاحظات التالیة :
- تنطلق قصیدة النثر فی الحرکة الشعریة العربیة الجدیدة من ظاهرة إخضاع اللغة و قواعدها و أسالیبها لمتطلبات جدیدة بحیث أنها تثیر فی تراثنا العربی معنی الشعر بالذات .
- فی التراث حدّ فاصل بین النثر و الشعر : الشعر هو فن البیت أی النظم.
- بین الشعر و العروض الخلیلی لا یعود ثمّ مجال لبحث قصید النثر
- الشعر لا یحدد بالعروض و هو أشمل منه ، بل أن العروض لیس إلا طریقة من طرائق التعبیر الشعری علی طریقة النظم.
- إذا کانت القصیدة الخلیلیة مجبرة علی إختیار أشکال موروثة فإن القصیدة الجدیدة نثرا أو وزناً حرة فی إختیار الأشکال التی تفرضها تجربة الشاعر.
- الإیقاع الخلیلی خاصة فیزیائیة فی الشعر العربی ، و القافیة فی العروض الخلیلی علامة الإیقاع ، هذه الخاصة هی للطرب فی الدرجة الأولی ، و قد أصبح وجودها أکثر أهمیة مما تعنی ، و من هنا أخذت تفقد حتی دلالتها الأصلیة.
- التعبیر الشعری الجدید تعبیر بمعانی الکلمات و خصائصها الصوتیة أو الموسیقیة أو الثقافیة جزء من هذه الخصائص لا کلها و هی إذن لیست من خصائص الشعر بالضرورة.
- الشکل الشعری الجدید عودة إلی سحر الکلمة العربیة الأصلی و إیقاعها و غناها الموسیقی و الصوتی ، و الشکل الشعری الجدید یتکون الآن بدأً من الکلمة العربیة و إیقاعها لا بدأً من القریض.
- من الخطأ أن نتصور أن الشعر یمکن أن یستغنی عن الإیقاع و التناغم کذلک من الخطأ القول بأنهما یشکلان الشعر کله.
- إن إیقاع الجملة و علائق الأصوات و المعانی و الصور و طاقة الکلام الإیحائیة و الذیول التی تجرها الإیحاءات وراءها من الأصداء المتلونة المتعددة ، هذه کلها موسیقی و هی مستقلة عن موسیقی الشکل المنظوم و قد توجد به و قد توجد دونه.
- فی قصیدة النثر موسیقی لکنها لیست موسیقی الخضوع للإیقاعات القدیمة بل هی الموسیقی الإستجابة لإیقاع تجاربنا و حیاتنا الجدیدة وهو إیقاع یتجدد کل لحظة.
- تتضمن القصیدة الجدیدة نثرا أو وزناً مبدأ مزدوجا : الهدم لدنها ولیدة التمرد و البناء لأن کل تمرد علی القوانین القائمة مجبر إذا أراد أن یبدع أثرا یبقی أن یعوض عن تلک القوانین بقوانین أخری کی لا یصل إلی اللاعفویة و اللاشکل.
- إن القصیدة الجدیدة نثرا أو وزناً خطرةٌ لأنها حرةٌ . (حمود ،صص196-198)
جمع و نشر جاسم ثعلبی (حسّانی)